فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {كلاّ إِذا بلغتِ التراقي}
{كلاّ} ردْع وزجْر؛ أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة؛ ثم استأنف فقال: {إِذا بلغتِ التراقي} أي بلغت النفس أو الروح التراقي؛ فأخبر عما لم يجر له ذكر، لعلم المخاطب به؛ كقوله تعالى: {حتى توارتْ بالحجاب} [ص: 32]، وقوله تعالى: {فلوْلا إِذا بلغتِ الحلقوم} [الواقعة: 83] وقد تقدّم.
وقيل: {كلاّ} معناه حقا؛ أي حقّا أن المساق إلى الله {إِذا بلغتِ التّراقِي} أي إذا ارتقت النفس إلى التراقي.
وكان ابن عباس يقول: إذا بلغت نفس الكافر التراقي.
والتراقي جمع ترْقُوة وهي العظام المكتنفة لنُقْرة النّحر، وهو مقدّم الحلق من أعلى الصدر، موضع الحشْرجة؛ قال دُريْد بن الصِّمّة:
ورُبّ عظِيمةٍ دافعْت عنْهُمْ ** وقدْ بلغتْ نُفُوسُهُمُ التّراقِي

وقد يكنى عن الإشفاء على الموت ببلوغ النفس التراقي، والمقصود تذكيرهم شدّة الحال عند نزول الموت.
قوله تعالى: {وقِيل منْ راقٍ} اختلف فيه؛ فقيل: هو من الرقية؛ عن ابن عباس وعِكرمة وغيرهما.
روى سِماك عن عِكرمة قال: من راقٍ يرْقِي: أي يشْفِي.
وروى ميمون بن مِهران عن ابن عباس: أي هل من طبيب يشْفِيه؛ وقاله أبو قِلابة وقتادة؛ وقال الشاعر:
هلْ لِلْفتى مِنْ بناتِ الدّهْر مِنْ واقِ ** أمْ هلْ له مِنْ حِمام الْموْتِ مِنْ راقِ

وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس؛ أي من يقدر أن يرْقِي من الموت.
وعن ابن عباس أيضا وأبي الجوزاء أنه من رقِي يرْقى: إذا صعِد، والمعنى: من يرقى بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل: إن ملك الموت يقول من راقٍ؟ أي من يرْقى بهذه النفس؛ وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها، فيقول ملك الموت: يا فلان اصعد بها.
وأظهر عاصم وقوم النون في قوله تعالى: {منْ راقٍ} واللام في قوله: {بلْ ران} لئلا يشبه مرّاق وهو بائع المرْقة، وبرّان في تثنية البرّ.
والصحيح ترك الإظهار، وكسرة القاف في {منْ راقٍ} وفتحة النون في {بلْ ران} تكفي في زوالِ اللبس.
وأمثل مما ذُكِر: قصد الوقف على (من) و{بلْ}، فأظهرهما؛ قاله القشيريّ.
قوله تعالى: {وظنّ} أي أيقن الإنسان {أنّهُ الفراق} أي فراق الدنيا والأهل والمال والولد، وذلك حين عاين الملائكة.
وقال الشاعر:
فراقٌ ليس يُشبههُ فِراقُ ** قد انقطع الرجاءُ عن التّلاقِ

{والتفت الساق بالساق} أي فاتصلت الشدّة بالشدّة؛ شدّة آخر الدنيا بشدة أوّل الآخرة؛ قاله ابن عباس والحسن وغيرهما.
وقال الشعبي وغيره: المعنى التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدّة الكرب.
وقال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الأخرى.
وقال سعيد بن المسيِّب والحسن أيضا: هما ساقا الإنسان إذا التفّتا في الكفن.
وقال زيد بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت.
وقال الحسن أيضا: ماتت رجلاه ويبست ساقاه فلم تحملاه، ولقد كان عليهما جوّالا.
قال النحاس: القول الأوّل أحسنها.
وروى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: {والتفت الساق بالساق} قال: آخر يوم من الدنيا وأوّل يوم من الآخرة، فتلتقي الشدّة بالشدّة إلا من رحمه الله؛ أي شدّة كرب الموت بشدّة هول المطلع؛ والدليل على هذا قوله تعالى: {إلى ربِّك يوْمئِذٍ المساق} وقال مجاهد: ببلاء ببلاء.
يقول: تتابعت عليه الشدائد.
وقال الضحاك وابن زيد: اجتمع عليه أمران شديدان: الناس يُجهِّزون جسده، والملائكة يُجهِّزون رُوحه، والعرب لا تذكر الساق إلا في المِحن والشدائد العظام؛ ومنه قولهم: قامت الدنيا على ساق، وقامت الحرب على ساق.
قال الشاعر:
وقامِت الحربُ بنا على ساق

وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة {ن والقلم}.
وقال قوم: الكافر تُعذِّب روحه عند خروج نفسه، فهذه الساق الأولى، ثم يكون بعدهما ساق البعث وشدائده: {إلى ربِّك} أي إلى خالقك {يوْمئِذٍ} أي يوم القيامة {المساق} أي المرجع.
وفي بعض التفاسير قال: يسوقه ملكه الذي كان يحفظ عليه السيئات.
والمساق: المصدر من ساق يسوق، كالمقال من قال يقول.
قوله تعالى: {فلا صدّق ولا صلى} أي لم يصدّق أبو جهل ولم يصلّ.
وقيل: يرجع هذا إلى الإنسان في أوّل السورة، وهو اسم جنس.
والأوّل قول ابن عباس.
أي لم يصدّق بالرسالة {ولا صلّى} ودعا لربه، وصلّى على رسوله.
وقال قتادة: فلا صدّق بكتاب الله، ولا صلّى لله.
وقيل: ولا صدّق بمال له، ذخرا له عند الله، ولا صلّى الصلوات التي أمره الله بها.
وقيل: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه.
قال الكسائي: (لا) بمعنى لم ولكنه يقرن بغيره؛ تقول العرب: لا عبدُ الله خارج ولا فلان، ولا تقول: مررت برجل لا مُحْسِن حتى يقال ولا مُجْمِل، وقوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة} [البلد: 11] ليس من هذا القبيل؛ لأن معناه أفلا اقتحم؛ أي فهلا اقتحم، فحذف ألف الاستفهام.
وقال الأخفش: {فلا صدّق} أي لم يصدّق؛ كقوله: {فلا اقتحم} أي لم يقتحم، ولم يشترط أن يُعْقِبه بشيء آخر، والعرب تقول: لا ذهب، أي لم يذهب، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل؛ ومنه قول زهير:
فلا هُو أبْداها ولمْ يتقدّم

قوله تعالى: {ولكن كذّب وتولى} أي كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان {ثُمّ ذهب إلى أهْلِهِ يتمطى} أي يتبختر، افتخارا بذلك؛ قاله مجاهد وغيره.
مجاهد: المراد به أبو جهل.
وقيل: {يتمطّى} من المطا وهو الظّهْر، والمعنى يلْوِي مطاه.
وقيل: أصله يتمطط، وهو التمدّد من التكسّل والتثاقل، فهو يتثاقل عن الداعي إلى الحق؛ فأبدل من الطاء ياء كراهة التضعيف، والتمطي يدل على قلة الاكتراث، وهو التمدّد، كأنه يمدّ ظهره ويلويه من التبختر.
والمطِيطة الماء الخاثر في أسفل الحوض؛ لأنه يتمطى أي يتمدّد؛ وفي الخبر: «إذا مشت أمّتي المُطيْطاء وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم» والمُطيْطاء: التبختر ومدّ اليدين في المشي.
قوله تعالى: {أولى لك فأولى ثُمّ أولى لك فأولى}: تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد، أي فهو وعيد أربعة لأربعة؛ كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهِل بربه فقال: {فلا صدّق ولا صلى ولكن كذّب وتولى} أي لا صدّق رسول الله، ولا وقف بين يديّ فصلّى، ولكن كذّب رسولي، وتولّى عن التصلية بين يديّ.
فترْك التصديق خصْلة، والتكذيب خصْلة، وترك الصلاة خصْلة، والتولي عن الله تعالى خصْلة؛ فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربعة.
والله أعلم.
لا يقال: فإن قوله: {ثُمّ ذهب إلى أهْلِهِ يتمطى} خصْلة خامسة؛ فإنّا نقول: تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولّي، فأخبر عنها.
وذلك بيِّنٌ في قول قتادة على ما نذكره.
وقيل: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد، مما يلي باب بني مخزوم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فهزّه مرّة أو مرتين ثم قال: {أوْلى لك فأوْلى} فقال له أبو جهل: أتهددُني؟ فوالله إني لأعزُّ أهل الوادي وأكرمه. ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لأبي جهل».
وهي كلمة وعيد.
قال الشاعر:
فأوْلى ثم أوْلى ثم أوْلى ** وهلْ لِلدّرِّ يُحْلبُ من مردِّ

قال قتادة: أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده فقال: {أولى لك فأولى ثُمّ أولى لك فأولى}.
فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا، إني لأعزُّ منْ بين جبليها.
فلما كان يوم بدْر أشرف على المسلمين فقال: لا يُعْبد اللّهُ بعد هذا اليوم أبدا.
فضرب الله عنقه، وقتله شر قِتْلة.
وقيل: معناه: الويل لك؛ ومنه قول الخنساء:
هممْتُ بنفسي كُلّ الهُمُومِ ** فأْوْلى لِنفْسِي أوْلى لها

سأحْمِلُ نفسي على آلةٍ ** فإِمّا عليها وإِمّا لها

الآلة: الحالة، والآلة: السرير أيضا الذي يحمل عليه الميت؛ وعلى هذا التأويل قيل: هو من المقلوب؛ كأنه قيل: أوْيل، ثم أخر الحرف المعتل، والمعنى: الويل لك حيّا، والويل لك ميتا، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار؛ وهذا التكرير كما قال:
لك الْويْلاتُ إِنّك مُرْجِلِي

أي لك الويل، ثم الويل، ثم الويل، وضعف هذا القول.
وقيل: معناه الذم لك أولى من تركه، إلا أنه كثير في الكلام فحذف.
وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال الأصمعي: {أوْلى} في كلام العرب معناه مُقاربة الهلاك، كأنه يقول: قد ولِيت الهلاك، قد دانيْت الهلاك؛ وأصله من الولْي، وهو القُرْب؛ قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنُواْ قاتِلُواْ الذين يلُونكُمْ مِّن الكفار} [التوبة: 123] أي يقرُبُون منكم؛ وأنشد الأصمعي:
وأوْلى أن يكون له الولاءُ

أي قارب أن يكون له؛ وأنشد أيضا:
أوْلى لِمنْ هاجتْ لهُ أْنْ يكْمدا

أي قددنا صاحبها من الكمد.
وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعيّ ويقول: ليس أحد يفسّر كتفسيرالأصمعي.
النحاس: العرب تقول أولى لك: كِدت تهلِك ثم أفْلت، وكان تقديره أوْلى لك وأولى بك الهلكة.
المهدويّ قال: ولا تكون أوْلى (أفْعل منك)، وتكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: الوعيد أولى له من غيره؛ لأن أبا زيد قد حكى: أوْلاةُ الآن: إذا أوْعدُوا.
فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك.
و{لك} خبر عن {أوْلى}. ولم ينصرف {أوْلى} لأنه صار علما للوعيد، فصار كرجل اسمه أحمد.
وقيل: التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السّيئ الأوّل، ثم على الثاني، والثالث، والرابع، كما تقدّم. اهـ.